لقد ظن الاستعمار الفرنسي أن صغر سن السلطان محمد بن يوسف سيمكنهم من تحقيق مشروعهم الاستعماري في راحة و أمان، إلا أن التاريخ أكد عكس ذلك بالتمام و الكمال. إذ أن السلطان محمد بن يوسف سلك درب النضال و الكفاح مبكرا من حيث لم يحتسب الإستعمار الغاشم. و لعل خطاب جلالته التاريخي بمدينة طنجة قد أكد للإستعمار الفرنسي أن مشروعه بدأ ينهار منذ فجر أربعينات القرن الماضي. علما أنه كان قبل ذلك في يونيو 1940 قد رفض جلالته خضوع اليهود المغاربة لحمل النجمة السداسية الصفراء المفروضة من طرف حكومة فيشي الموالية لأدولف هتلر. كما أكد التاريخ، و هذا بشهادة الإعلام الفرنسي نفسه، أنه منذ وصول الجنرال جوان إلى المغرب محل و مكان إيريك لابون تكهربت العلاقات بدرجة لم يسبق لها مثيل بين الملك و السلطات الفرنسية...تكاثرت المطالب...و المذكرات...و الزيارات المجهضة أو المؤجلة...و الاحتجاجات...
و المتتبع لما نشرته وسائل الإعلام الفرنسية و العالمية يلاحظ بكل سهولة حضور إشكالية المطالبة بالاستقلال منذ فجر أربعينات القرن الماضي، بل قبل ذلك. لقد جاء في مقال للصحفي ميشيل كليرك (M. Clerc ) الصادر بمجلة باري ماتش ( Paris Match) " [...] في أحد أيام سنة 1943 تمكن روزفلت ( ) ، حليف فرنسا، من مد العون لبذرة الانتفاضة بالمغرب[...] عندما كان في أنفا طلب لقاء السلطان محمد بن يوسف بدون حضور المقيم العام و بدون أي شاهد فرنسي [...] و في ذلك اللقاء صرح للملك بوعده بتخليص المغرب من الوصاية الفرنسية...و قد ساهم هذا الوعد الأمريكي في حشد الهمم [...] و في أكتوبر 1946 تخلى الدستور الفرنسي عن عبارة " الامبراطورية الفرنسية" حيث تم تعويضها بعبارة " الاتحاد الفرنسي " [...] و بدأت الشعوب على امتداد العالم تطالب بتطبيق فحوى "ميثاق المحيط الأطلسي" قصد تكريس حق الشعوب في حكم نفسها بنفسها [...] من الهند الصينية إلى مدغشقر، و من أندونيسيا إلى افريقيا السوداء هبت رياح الحرية على امتداد الامبراطورية العتيقة [...] آنذاك بالضبط تقوت العلاقة بين السلطان محمد بن يوسف و حزب الاستقلال الذي عرف النور سنة1944 بتزامن مع زيارة روزفلت للمغرب" . و محاولة منها للهروب إلى الأمام عملت السلطات الاستعمارية الفرنسية على اقتراح جملة من شبه إصلاحات لتمكين المغاربة – حسب ادعائها- من المساهمة في إدارة شؤون البلاد. لكن السلطان محمد بن يوسف كان قد أخذ موقعه الحاسم بجانب الحركة الوطنية باعتبار أنه لا إصلاحات و معاهدة فاس لازالت سارية المفعول لأن المغربة لا يقبلون سيادة مشتركة أو مزدوجة. إنهم و ملكهم يرغبون و بالتأكيد في سيادة كاملة و شاملة ، أي إما كل شيئ أو لاشيء. و هكذا اتضح منذ الوهلة الأولى بعد النفي، أن عودة السلطان محمد بن يوسف إلى عرشه لا مندوحة عنها مهما كان الثمن.
و في أبريل 1947 كان خطاب طنجة الذي أولته وسائل الإعلام الفرنسي و العربي و العالمي عموما أهمية بالغة. إنه الخطاب الذي أعلن فيه جلالته، جهارا و رسميا، عن حق المغرب الشرعي في الاستقلال و الحرية و وحدته الترابية. و حسب ما نشر حول هذا الموضوع بالصحف الفرنسية يتبين بجلاء أن خطاب مدينة طنجة التاريخي أفهم الاستعمار الفرنسي أن الملك أصبح قائد الحركة الوطنية بالمغرب و حجرة الزاوية في مسار تحقيق الحرية. و بعد سنوات قليلة تكرس هذا المسار و أُضيفت لبنة أخرى على درب تحقيق المنشود. إذ تبلور في سنة 1951 ، و بالضبط يوم 9 أبريل "ميثاق طنجة" الذي يعد إلتزاما بالنضال و الكفاح من أجل الاستقلال. و تلى ذلك رسالة السلطان محمد بن يوسف الموجهة يوم 21 مارس 1952 إلى الرئيس الفرنسي (Auriol Vincent) لمطالبة فرنسا بإعادة النظر في معاهدة الحماية. و في 16 أكتوبر من نفس السنة ساندت جملة من الدول المغرب في مساعيه بالأمم المتحدة. و في 7 و 8 ديسمبر 1952 انفجرت مظاهرات تنديدا باغتيال فرحات حشاد و إعلانا على وحدة المصير النضالي لدول شمال غقريقيا آنذاك. و في غضون هذا الشهر ظهر تنظيم "الحضور الفرنسي" بفضل طبيبين استعماريين متطرفين و هما "إيرو" و "كوس" ، و هو التنظيم الذي سعى إلى تثبيت دعائم السلطة الاستعمارية الفرنسية بالمغرب و إشراك المعمرين الفرنسيين في التنظيمات و المؤسسات السياسية المغربية. و هذا طبعا، ما دأب كل من "روني مايير" و المارشال جوان على تأكيده.
المطالبة بالاستقلال و إعداد المؤامرة الكبرى
في سنة 1951 طالب السلطان محمد بن يوسف بإلغاء معاهدة الحماية و شرع في رفض وضع طابعه الشريف على مراسيم الادارة الفرنسية. فلقد أيقن جلالته أنه لا حل لمشكلة المغرب إلا بإلغاء الحماية و إعلان إستقلاله. و قد وصل جلالته إلى هذه القناعة الراسخة بمعية الحركة الوطنية و الشعب المغربي بعد مدة من المطالبة السلمية من أجل تحقيق برنامج إصلاحات رامية إلى التطور التدريجي نحو إعادة السيادة و التحرير الكلي، إلا أن السلطات الفرنسية تعنتت و تنكرت للتاريخ و أخذت تحلم بفرنسة المغرب. و بذلك فسحت المجال لتراكم الشروط لاندلاع الثورة المغربية، ثورة الملك و الشعب. و بالتالي كان من المنتظر و الطبيعي أن يشكل نفي الملك و العائلة الملكية النقطة التي أفاضت الكأس. و لذلك و من حيث لا تدري فرنسا و قواتها و جيوشها و أتباعها من الخونة، انفجرت الانتفاضات تلو الانتفاضات في كل شبر من أرجاء المغرب و لم تهدأ إلا بعد عودة الملك الشرعي. و بذلك سمحت فرنسا باختزال كل مطالب الشعب المغربي في مطلب جوهري و هو عودة السلطان محمد بن يوسف، الملك الشرعي للمغرب و المغاربة إلى عرشه، باعتبار أن هذه العودة لن يكون لها معنى و مضمون إلا بالاستقلال و الحرية التامين. و هذه حقيقة ساطعة لا تحتاج إلى أي دليل، و الكثير من الصحفيين غير المغاربة توصلوا إليها آنذاك. فحينما هجم الجنرال جيوم على القصر الملكي بالرباط ليحمل العاهل المغربي بقوة السلاح و النار على التنازل عن قيادة الأمة و رئاسة الدولة، اكتفى جلالته بابتسامة استهزاء قائلا: " لقد عرفت المصير الذي ينتظرني، و لكن الموت أهون علي من خيانة بلادي". و ذلك لأن الشعب المغربي و طليعته الوطنية اعتنق عن بكرة أبيه الفكرة القائلة أنه لا يمكن أن يتحقق أي إصلاح مجدي و ذي جدوى مهما كان جزئيا إلا بعد الاستقلال و قيام حكومة وطنية لا رقيب عليها إلا الشعب. و قد ترسخت هذه القناعة منذ المؤتمر الذي ضم كل الهيآت الوطنية و المستقلة لتحرير وثيقة الاستقلال التي تمحورت حول مبدأين أساسيين و هما المطالبة بالاستقلال الشامل و مطالبة جلالة الملك برعاية حركة الإصلاح الداخلي.
و لقد دلت جملة من المعطيات و الأفكار الواردة في مقالات الصحفيين الفرنسيين المنشورة آنذاك على أن تعامل السلطات الفرنسية مع هذه الوثيقة كشف ، و بجلاء، ما ظلت السياسة الفرنسية تخفيه مدة طويلة. أي رغبتها الأكيدة في القضاء على شعب المغرب و هويته و حاضره و مستقبله كمغرب عربي مسلم.و ما فتأ أن تأكدت هذه النوايا عندما هب المغمرون الفرنسيون بالمغرب في مظاهرات للمطالبة في سنة 1953 بتغيير المقيم العام و تعويضه بآخر قادر – في نظرهم- على إبادة الشعب المغربي لتحقيق المشروع الاستعماري في شموليته دفعة واحدة، و ذلك عن طريق فصامه عن قوميته و عروبته و إسلامه. و هذا ما أكدته كذلك طريقة وطبيعة التعاضي و الدعم و المساندة لمظاهرات التضامن مع الارهابيين الفرنسيين و رجال الأمن المتآمرين معهم.
و هذا ما دل عليه كذلك قدوم السلطات الفرنسية على اعتقال المحامي الفرنسي الأستاذ جان شارل لوكران الذي اضطر إلى إطلاق النار دفاعا على نفسه ضد الذين هاجموه من ا
|